British Nutrition Clinics

رحلتي في دراسة التغذية, قصة طويلة

يعتبرالتعليم في البلاد العربية محصورا على الحفظ وخصوصا في المرحلة الثانوية، حيث يقدم الطلاب على امتحان واحد (بعبع) يسمى البكلوريا (امتحان الشهادة الثانوية)، والبكلوريا قائمة بشكل كبير على حفظ كتب الدراسة من الجلدة للجلدة (من أول الكتاب لأخر صفحة فيه) ليقوم الطالب بتقديم المواد على أيام منفصلة يخرج فيها كل ماحفظه على ورقة الإمتحان، ليتقرر مصير حياته ومستقبله بثلاث ساعات امتحان.
عام 2004 تقدمت لامتحان البكلوريا في سورية وبعد ساعات طويلة وفلوس تم صرفها على الدروس الخصوصية ودورات الإنكليزي والرياضيات والفيزياء، جاء وقت الإمتحان الذي سيحدد مستقبلي بشكل كامل وسيحدد تخصصي، وبعد كل الجد والتعب والكد والسهر وكل الصفات التي قد تضفي معنى لما قمت به (وهي شيء طبيعي جدا جدا)، تقدمت للامتحان، وكنت أحلم باللحظة التي سأدخل فيها الجامعة، حيث تمتلك الحرية للدخول للمحاضرة ولا يوجد تفقد للحضور، وباب الجامعة مفتوح تستطيع الدخول والخروج بدون سؤال ولا باب يقفل كما في المدرسة. جاءت نتيجة البكلوريا، وكانت صدمة لي ولعائلتي لأني نجحت بمجموع جيد فقط لا يتيح لي الدخول إلا لدراسة فيزياء أو كيمياء أو علوم، أو يمكنني دراسة هندسة ميكانيك أو حاسوب ولكن في التعليم الموازي، ولكن لم أكن أهوى أيا مما سبق، فقد كنت ولا زلت أرسم البيت كمربع وفوقه مثلث. وبعد خيبة الأمل من نتيجة البكلوريا، تقدمت لتخصص هندسة ميكانيك بالتعليم الموازي. وشاء الله أني كنت أقرأ الكثير من الكتب لدرجة أن والدتي رحمها الله قد أهدتني مكتبة من الخشب الزان لأضع فيها كتبي الثقيلة الوزن المبعثرة في غرف البيت. وبسبب قرائتي للكتب كنت على صلة وثيقة بالعديد من أصحاب المكتبات الكبري في مدينتي حمص مثل مكتبة مهرات ومكتبة علوان ومكتبة طلاس. وفي أحد الأيام ذهبت لشراء الكتب من مكتبة طلاس وكان القائم على المكتبة دكتور في الفلسفة هو الدكتور منذرالحائك، فأخبرته بأني لم أحصل علامات مرتفعة في البكلوريا وقد أدرس هندسة الميكانيك (بالتعليم الموازي: التعليم الموازي يسمح للطالب الذي لم يحصل علامات مرتفعة بالدخول لتخصص يتطلب علامات أكثر). المهم، أخبرني الدكتور منذر بأن جامعة جديدة خاصة قامت بافتتاح تخصصات طبية مثل الطب والصيدلة وتخصص جديد اسمه تغذية، فأخبرته وقتها أني أرغب بتخصص الطب أو الصيدلة كون الجامعة خاصة وسأدخل للتخصص بالفلوس، ولكنه صدمني بأن علاماتي لا ترقى حتى لدخول الصيدلة في هذه الجامعة الخاصة، ولكنه نصحني بأن أدخل تخصص جديد اسمه تغذية وهو تخصص واعد ويمكن بعد دخوله ودراسة سنة كاملة فيه وتحصيل علامات مرتفعة 70 بالمئة وأكثر فمن الممكن أن أنقل لتخصص الصيدلة.
فاستمعت لنصيحة الدكتور منذر ودخلت تخصص التغذية على مضض، فوجئت بأن التخصص باللغة الإنكليزية، اللغة التي كنت أكرهها. كانت الدراسة صعبة بعض الشيء في البداية ولا أعلم كيف ولماذا درست ونجحت وانتهت السنة الأولى وصدرت النتائج، لأتفاجأ بأني الأول على القسم. كنت قد توقفت عند نقطة أني كنت الأول على الجامعة في السنة الأولى من دراستي للتغذية مما سيعني أنه بإمكاني الأن أن أنقل لدراسة الصيدلة بما أني قد حققت شرط العلامة المطلوبة للانتقال للصيدلة، ولكني وبعد تفكير لم يدم لأكثر من ثانية آثرت تكملة المشوار في التغذية كوني قد نجحت وبقوة في السنة الأولى. ولكني لم أبق الأول على القسم لفترة طويلة بل حدث العكس، فتدهورت علاماتي لعدة أسباب أعتبرها مفيدة بشكل كبير، والسبب الأول كان ملازمتي لخالي الدكتور عبدالرحمن، حيث كنت شبه سكرتيرة لديه أنتهي من الجامعة لأذهب لعيادته لنقرأ كتب الطب وبقيت ملازما له أكثر من أربع سنوات بشكل شبه يومي، والسبب الثاني هو أني بدأت بالتعلم على قراءة الأبحاث العلمية على موقع بوبميد، فكنت أغوص في التغذية وأبحاثها التي لن تأتي في الإمتحان أبدا. وهنا لا بد أن أذكر الفريق الأكاديمي الذي أشرف على تدريسي في الجامعة.
فقد كان الفريق الأكاديمي المسؤول عن تدريس التغذية خليط من الأكاديمين والدكاترة السوريون وألأردنيين الذين قد درسوا في بلاد الفرنجة، وأذكر من الدكاترة السوريين: الدكتور نزار الحمد، والدكتور ماهر كوراكلي والدكتور لؤي اللبان والدكتور وائل حتاحت، وكل هؤلاء الأفاضل كانوا قد درسوا في بريطانيا وأميركا وألمانيا، وقد كنت محظوظا لتتلمذي على يديهم، ولا زلت لحد الأن على صلة وثيقة مع بعضهم. أما الدكاترة الأردنيون، فكانوا يأتون من الأردن ويباتون في دمشق يومين في الأسبوع، وأذكر منهم البروفيسورة هدى الحوراني (المربية الفاضلة التي تركت أثرا طيبا بعلمها وأدبها وعلمها لدى جميع من تتلمذ على يدها). وأذكر أيضا الدكتورة هديل غزاوي التي كنا ننتظر محاضرتها بفارغ الصبر وذلك لسعة علمها ورقيها ومعاملتنا كأصدقاء وأخوة وليس كأستاذ وطالب. كما قام فريق الأردن بتدريبنا في مشفى عمان التخصصي في الشيمساني وأشرف على مجموعة كبيرة من الطلاب.
وبهذا تكون انتهت رحلة دراسة بكلوريوس التغذية في سورية، لأنتقل للدراسة في بريطانيا، حيث كانت والدتي رحمها الله تشجعني على دراسة الماجستير، وفعلا خضت امتحان التوفل في دمشق واستطعت تحصيل قبول ماجستير لدراسة التغذية على مستوى الجزيئات في جامعة هيروت وات. فرحت عائلتي بطفلها المدلل الذي سيذهب لانكليزيا للدراسة والعودة، وفعلا ودعت عائلتي وحزمت والدتي حقيبتي ووصتني بوصية لن أكتبها لكي لا يذهب ثوابها ان كتبتها. وصلت لمانشستر لأن صديق صديق أحد أفراد عائلتي يدرس الدكتوراة في جامعة مانشستر، وكان طالب الدكتوراة وقتها هو الدكتور عبداللطيف من حلب، استلمني من المطار ومعه دكتور أخر من ادلب يدعى الدكتور محمد، وذهبنا للغرفة التي قاموا باستئجارها لي وبقية شهرين، وسمعت من الدكتور عبداللطيف بأنه توجد جامعة في مدينة مانشستر مشهورة بتخصص التغذية، فحاولت الذهاب للتقديم لها ولكن تم الرفض، لم يتم قبولي. فسافرت من مانشستر لادنبرة لأبدأ بدراسة الماجستير، وبدأ الدوام مع شهر رمضان وفي صباح يوم العيد، جائني اتصال من سورية، كان الصوت صوت أخي الأوسط،

فقلت لأخي، كل عام وأنتم بخير، فقال لي وأنت بخير، وبدأ بالبكاء، فظننت أنه قد اشتاق لي، ولكنه قال لي وكل الله، أمك ماتت. فسكتت، وشعرت بأن نملا ينخر في دماغي وتوقفت الحياة عندها. فلم يعد لشيء طعم ولا نكهة ولا رائحة. لم أستطع العودة لوداع والدتي قبل دفنها ولم أرغب بذلك لاقتناعي بأنها لا زالت على قيد الحياة، فقد كانت رحمها الله ربة منزل، لا تعمل شيئا إلا أن تهتم بي وبأخوتي، تتسلى بحياكة الصوف، ويحبها ويحترمها جميع أفراد العائلة لمكانتها المرموقة في عائلتها من ناحية ولتواضعها وحبها وعطفها من ناحية أخرى، وكانت رحمها الله وصلت للصف الرابع وتوقفت عن الدراسة، ومع ذلك فقد درس أغلب أبنائها تخصصات مرموقة مثل الصيدلة والهندسة والعبد الفقير، أما من لم يختر طريق الدراسة فقد اختار طريقة التجارة ونجح فيه، لن أتكلم أكثر عنها لأني أعتقد أن كل الأبناء يشعرون بأن أمهم أفضل أم في الدنيا وهذا حقيقة.
نعود للدراسة الأن. درست الماجستير في التغذية على مستوى الجزيئات في ادنبرة ثم انتقلت لمانشستر لدراسة الدكتوراة، والتي كان الوصول لها صعبا جدا، ولكي أستطيع إعالة نفسي كان علي أن أعمل بعض الأعمال مثل العمل في كازية شيل الشهيرة حيث كنت أعمل في فترة المساء من الساعة الثامنة مساءا للساعة الثامنة صباحا، كان هذا العمل وسيلة جيدة للخلو مع ذاتي ومع الأشباح، فقد كانت مهمة محصورة في تعبئة أكياس الشيبس والكولا وتنظيف ماكينة القهوة وتنظيف الحمام والأرض، والكازيات في بريطانيا تغلق أبوابها مساءا لكي لا يدخل اللصوص لسرقة الكازية، ويتواصل العامل مع الزبون الموجود في الخارج عبر شباك صغير وسحاب يتم من خلاله اعطاء المنتجات التي يطلبها زبون الليل، وكان عملي يتوزع على عدة كازيات في مدينة مانشستر فأحيانا أذهب لفرع كازية فيها حركة في الليل وفيها شوفيرية تكاسي، وأحيانا أذهب لفرع كازية في وسط الغابة لايوجد فيها أحد إلا أنا وكلاب الليل والثعالب والأشباح، والسكارى. استمررت في عمل الكازية قرابة العام وكنت وقتها طالبا للدكتوراة. ثم أتيحت لي فرصة ذهبية في مطعم ماكدونالدز الشهير في مدينة مانشستر فرع مركز المدينة المزدحم. كانت مهمتي بسيطة جدا، كان الناس ينتهون من الطعام ويتركون مخلفات وبواقي الأكل على الطاولة وكانت مهمتي تنظيف الطاولة والأرض، ولم أثبت في هذه الوظيفية إلا يوما واحدا، لأن مدير المطعم اعتذر مني وأخبرني بأن لن أستطيع القدوم في التالي وعند سؤاله عن السبب قال لي بأني طموح وأنا طالب دكتوراة ولن أعمر كثيرا في هذه الوظيفة، وأنا مدرك تماما أن السبب كان ضخامتي وبطىء حركتي، الذي سيؤثر سلبا على المطعم. (ينبغي التنويه عزيزي القارىء، بأن ما سمعته لحد الأن هو شيء طبيعي جدا وقد يمر به أي إنسان، وليس الهدف من ذكره أن تقول ما أعظم هذا المكافح البطل، بل هو سرد لما مررت به لعل أحدا يقرأ ما يكتب ليشعل فيه فتيل الطموح).
دراستي للدكتوراة لم تكن عادية أبدا، بل كانت مثيرة للاهتمام فقد دخلت الجامعة التي رفضتني عند وصولي لمانشستر، وبدأت أيضا التدريس فيها للعديد من المواد، وشاء الله أن أقدم على منحة للدراسة وأحصل عليها ولكن المشكلة كانت بأن الدكتور المشرف قرر الإنتقال بعد سنة من بدأي للدكتوراة، لأبقى بضعة أشهر في المخبر بدون إشراف، كانت هذه الأشهر كفيلة بشحذ الأفكار وتعلم الكثير من التقنيات، وكنت أبقى في الجامعة ساعات طويلة، طويلة طويلة فمثلا كنت أدخل المخبر السابعة صباحا وأغادره العاشرة مساءا، وكنت أذهب للمخبريوم السبت والأحد وهي أيام عطلة. وكان أحيانا يرافقني صديقي الدكتور عبدالله العنزي، كنا نبقى لساعات طويلة في الليل ونضع قراءة محددة للشيخ محمود البنا بتسجيل نادر خارجي لسورتي طه والأعلى، كانت أياما جميلة.
انتهيت من دراسة الدكتوراة بوقت قياسي فعادة تتطلب دراسة الدكتوراة ثلاثة سنوات وأكثر، أما دراستي فكانت لسنتين ونصف بسبب النتائج التي حصلت عليها بعد قدوم مشرف جديد لبحث الدكتوراة، وتعلمت عندها الانضباط ويباسة الرأس في العلم، واستطعت قبل انتهائي من دراسة الدكتوراة أن أكتب سبعة أبحاث من رسالة الدكتوراة وهذا شيء أعتقد أنه مميز لدى من يدرس الدكتوراة.
بعد التخرج بدأت رحلة البحث عن العمل كدوام كامل، وقدمت على 90 وظيفة أسفرت عن خمسة مقابلات فقط، وشاء الله أن يتم قبولي للعمل في جامعة ليدز تلك الجامعة المميزة القوية جدا في مجال التغذية والتي تركت في نفسي أثرا كبيرا ايجابيا وسلبيا. سأكتفي بهذا القدر وسأكمل في خاطرة أخرى. ان كنت وصلت لهنا فأنا أقدر لك وقتك وأرجو منك أن تبعث لي برسالة على الإنستغرام لتخبرني بأنك وصلت لهنا. رابط الإنستغرام مرفق هنا

https://www.instagram.com/dr.abdulmannan_fadel/

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *